فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله كلمة {عن} ليست بزائدة، قلنا ذكرنا اختلاف الناس فيها في المسألة الأولى.
قوله لم قلتم إن قوله: {فَلْيَحْذَرِ} يدل على وجوب الحذر عن العقاب؟ قلنا لا ندعي وجوب الحذر، ولكن لا أقل من جواز الحذر، وذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب.
قوله لم قلت إن الآية تدل على أن كل مخالف للأمر يستحق العقاب؟ قلنا لأنه تعالى رتب نزول العقاب على المخالفة فوجب أن يكون معللًا به، فيلزم عمومه لعموم العلة.
قوله هب أن أمر الله أو أمر رسوله للوجوب، فلم قلتم إن الأمر كذلك؟ قلنا لأنه لا قائل بالفرق، والله أعلم.
المسألة الرابعة:
من الناس من قال لفظ الأمر مشترك بين الأمر القولي وبين الشأن والطريق، كما يقال أمر فلان مستقيم.
وإذا ثبت ذلك كان قوله تعالى: {عَنْ أَمْرِهِ} يتناول قول الرسول وفعله وطريقته، وذلك يقتضي أن كل ما فعله عليه الصلاة والسلام يكون واجبًا علينا، وهذه المسألة مبنية على أن الكناية في قوله: {عَنْ أَمْرِهِ} راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما لو كانت راجعة إلى الله تعالى فالبحث ساقط بالكلية، وتمام تقرير ذلك ذكرناه في أصول الفقه، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فالمراد أن مخالفة الأمر توجب أحد هذين الأمرين، والمراد بالفتنة العقوبة في الدنيا، والعذاب الأليم عذاب الآخرة، وإنما ردد الله تعالى حال ذلك المخالف بين هذين الأمرين لأن ذلك المخالف قد يموت من دون عقاب الدنيا وقد يعرض له ذلك في الدنيا، فلهذا السبب أورده تعالى على سبيل الترديد، ثم قال الحسن: الفتنة هي ظهور نفاقهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: القتل.
وقيل: الزلازل والأهوال، وعن جعفر بن محمد يسلط عليهم سلطان جائر.
أما قوله تعالى: {أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السموات والأرض} فذاك كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى ما بينهما وما فيهما، واقتداره على المكلف فيما يعامل به من المجازاة بثواب أو بعقاب، وعلمه بما يخفيه ويعلنه، وكل ذلك كالزجر عن مخالفة أمره.
أما قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} فإنما أدخل {قَدْ} لتوكيد علمه بما هم عليه من المخالفة في الدين والنفاق.
ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد: وذلك لأن قد إذا أدخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير.
كما في قوله الشاعر:
فإن يمس مهجور الفناء فربما.. أقام به بعد الوفود وفود والخطاب والغيبة في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} يجوز أن يكونا جميعًا للمنافقين على طريق الالتفات، ويجوز أن يكون ما أنتم عليه عامًا ويرجعون للمنافقين، وقد تقدم في غير موضع أن الرجوع إليه هو الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له فلا وجه لإعادته، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال الجصاص:

وقَوْله تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَعْنِي احْذَرُوا إذَا أَسْخَطْتُمُوهُ دُعَاءَهُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُجَابٌ لَيْسَ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: اُدْعُوهُ بِالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ نَحْوِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَا تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ كَمَا يَقُولُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا.
وقَوْله تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} يَعْنِي بِهِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْصَرِفُونَ عَنْ أَمْرٍ جَامِعٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَسْتَتِرُ بِهِ لِئَلَّا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرِفًا.
قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مَعْنَاهُ: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ لِجَوَازِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، كَقَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} مَعْنَاهُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ.
وَالْهَاءُ فِي {أَمْرِهِ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى؛ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ يَلِيهِ، وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ رُجُوعُهَا إلَى مَا يَلِيهَا دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَ اللَّوْمَ وَالْعِقَابَ لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْبَلَهُ فَيُخَالِفَهُ بِالرَّدِّ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَفْعَلَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَمُعْتَقِدًا لِلُزُومِهِ؛ فَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ خَصَّهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي {أَمْرِهِ} لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ يُسَمَّى أَمْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} يَعْنِي أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ.
وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بَعْدَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} وَهُوَ الَّذِي تَلِيهِ الْكِنَايَةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.
آخِرُ سُورَةِ النُّورِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} فِيهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ، تَقُولُ: أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ عَمْرُو، عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا تَقُولُ: كَرِهْت ضَرْبَ زَيْدٍ عَمْرًا، عَلَى الثَّانِي.
وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ هَذَا الْمِقْدَارَ، فَعَقَدَ فَصْلًا فِي تَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ فِيهِ: فَاهْتَبِلُوا بِالدُّعَاءِ، وَابْتَهِلُوا بِرَفْعِ أَيْدِيكُمْ إلَى السَّمَاءِ، وَتَضَرَّعُوا إلَى مَالِكِ أَزِمَّةِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} وَأَرَادَ لَوْلَا سُؤَالُكُمْ إيَّاهُ، وَطَلَبُكُمْ مِنْهُ، وَرَأَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى فَاعِلٍ.
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى الْمَفْعُولِ.
وَالْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ إلَيْكُمْ، وَتَبْيِينِ الْأَدِلَّةِ لَكُمْ، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ عَذَابُكُمْ لِزَامًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضَافَةِ هَاهُنَا إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ، وَيَكُونُ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ إجَابَتَهُ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَتْ إجَابَتُكُمْ وَاجِبَةً.
يَعْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إجَابَةُ الْخَلْقِ بِقَرَائِنَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الدَّاعِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُوبِ إجَابَةِ دُعَاءِ الرَّسُولِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ احْذَرُوا أَنْ تَتَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْعُوَ عَلَيْكُمْ، وَلَيْسَ دُعَاؤُهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنِّي عَاهَدْت رَبِّي عَهْدًا، قُلْت: اللَّهُمَّ إنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَيْهِ وَرَحْمَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُسَوُّوا بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَكُمْ فِي الدَّعْوَةِ، كُلُّ أَحَدٍ يُدْعَى بِاسْمِهِ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُدْعَى بِخُطَّتِهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ غَفِيرًا: إنَّ الْخَلِيفَةَ يُدْعَى بِهَا، وَالْأَمِيرَ وَالْمُعَلِّمَ، وَيُوَفَّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حَظُّهُ مِنْ الْخُطَّةِ، فَيُدْعَى بِهَا قَصْدَ الْكَرَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} بِهَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَمْرَ صَرِيحٌ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَالْوُجُوبُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَوَجُّهِ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ، فَالْأَمْرُ مُقْتَضٍ، وَاللَّوْمُ وَالذَّمُّ خَاتَمٌ، وَذِكْرُ الْعِقَابِ بِالثَّأْرِ مُكَبَّرٌ، يُعَدُّ بِهِ الْفِعْلُ فِي جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، فَلْيُنْظَرْ تَحْقِيقُهُ هُنَالِكَ.
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَيَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمُخَالَفَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالْفِعْلُ نَدْبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَدِلَّةِ، وَيَنْسَاقُ بِمُقْتَضَى الْأَحْوَالِ وَالْأَسْبَابِ الْقَاضِيَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي قَوْلِهِ: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْكُفْرُ.
الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ.
الثَّالِثُ: بَلِيَّةٌ يَظْهَرُ بِهَا مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَحِيحَةٌ كُلُّهَا، وَلَكِنَّ مُتَعَلِّقَاتِهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ، وَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ هِيَ مَعْصِيَةٌ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْمُلْحِدِينَ، وَرَتَّبْنَا مَنَازِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَسَاقَهُ وَمُتَعَلَّقَهُ بِدَلِيلِهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَزْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَتِيقِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَيْوَةَ، حَدَّثَنَا جُرْهُمِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْت الزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ يَقُولُ: سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ.
فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ.
قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ.
قَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك الْفِتْنَةَ.
قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا.
قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلَّا وَاحِدَةً».
قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْعِصْمَةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمُتَابَعَةِ فِي الْأُلْفَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} الآية.
فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه نهي من الله عن التعرض لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسخاطه لأن دعاءه يوجب العقوبة وليس كدعاء غيره، قاله ابن عباس.
الثاني: أنه نهي من الله عن دعاء رسول الله بالغلظة والجفاء وَلْيَدْعُ بالخضوع والتذلل: يا رسول الله، يا نبي الله، قاله مجاهد، وقتادة.
الثالث: أنه نهي من الله عن الإِبطاء عند أمره والتأخر عند استدعائه لهم إلى الجهاد ولا يتأخرون كما يتأخر بعضهم عن إجابة بعض، حكاه ابن عيسى.
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} فيه قولان:
أحدهما: أنهم المنافقون كانوا يتسلّلُون عن صلاة الجمعة لواذًا أي يلوذ بعضهم ببعض ينضم إليه استتارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة فنزل ذلك فيهم، حكاه النقاش.
الثاني: أنهم كانوا يتسللون في الجهاد رجوعًا عنه يلوذ بعضهم ببعض لواذًا فنزل ذلك فيهم، قاله مجاهد.
وقال الحسن معنى قوله: {لِوَاذًا} أي فرارًا من الجهاد، ومنه قول حسان ابن ثابت:
وقريش تجول منكم لواذًا ** لم تحافظ وخفّ منها الحلوم

{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فيه قولان:
أحدهما: يخالفون عن أمر الله، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة.
ومعنى قوله: {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي يعرضون عن أمره، وقال الأخفش: {عَنْ} في هذا الموضع زائدة ومعنى الكلام فليحذر الذين يخالفون أمره، وسواء كان ما أمرهم به من أمور الدين أو الدنيا.
{أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فيها ثلاثة تأويلات:
أحدها: كفر، قاله السدي.
الثاني: عقوبة، قاله ابن كامل.
الثالث: بلية تُظْهِرُ ما في قلوبهم من النفاق، حكاه ابن عيسى.
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فيه قولان:
أحدهما: القتل في الدنيا، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: عذاب بجهنم في الآخرة. اهـ.